سورة غافر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {وقال الذي آمن} أي: مؤمن آل فرعون: {يا قوم اتبعون} فيما دللتكم عليه، {أَهدِكُم سبيلَ الرشادِ} أي: طريقاً يُوصل صاحبَه إلى المقصود. والرشاد: ضد الغيّ، وفيه تعريضٌ بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغيّ والضلال.
{يا قوم إنما هذه الحياةُ الدنيا متاعٌ} أي: تمتُّع يسير؛ لسرعة زوالها، فالإخلاد إليها أصل الشر، ومنبع الفتن، ومنه يتشعّب فنون ما يؤدي إلى سخط الله. أَجْمل له أولاً، ثم فَسَّر، فاستفتح بذم الدنيا، وتصغير شأنها، ثم ثنَّى بتعظيم الآخرة، وبيَّن أنها هي الموطن والمستقر بقوله: {وإِنَّ الآخرةَ هي دارُ القرارِ}؛ لخلودها، ودوامها، ودوام ما فيها. قال ابن عرفة: التمتُّع بالدنيا مانع من الزهد، وكون الآخرة دار مستقر يقتضي وجود الحرص على أسباب الحصول فيها. اهـ.
ثم ذكر الأعمال التي تُبعد عنها أو تُقرب إليها، فقال: {مَن عَمِلَ سيئةً} في الدنيا {فلا يُجزَى} في الآخرة {إِلا مثلَها} عدلاً من الله تعالى. قال القشيري: له مثلها في المقدار، لا في الصفة؛ لأن الأولى سيئة، والمكافأة حسنة ليست بسيئة. اهـ. وقال ابن عرفة: في توفيه مماثلة العذاب الأبدي على كفر ساعة تتصور المماثلة، إما باعتبار نيته الكفر دواماً، وإما بأن يقال: ليس المراد المماثلة عقلاً، بل المماثلة شرعاً. وفي الإحياء: قال الحسن: إنما خُلِّد أهل الجنة في الجنة، وأهل النار، في النار، بالنية، وهو والله أعلم مقتبس من قوله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]. اهـ. قاله المحشي.
{ومَن عَمِلَ صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فأولئك} الذين عملوا ذلك {يدخلون الجنةَ يُرزقون فيها بغير حسابٍ} أي: بغير تقدير، وموازنة بالعمل، بل بأضعافٍ مضاعفة، فضلاً من الله عزّ وجل ورحمة. قال القشيري: أي: مؤبداً مخلَّداً، لا يخرجون من الجنة، ولا مما هم عليه من الحال. اهـ. وجعل العمل عمدة، والإيمان حالاً؛ للإيذان بأنه لا عبرة بالعمل بدونه. وأنَّ ثوابه أعلى من ذلك.
الإشارة: قال الورتجبي: سبيل الرشاد: طريق المعرفة، ومعرفة الله تعالى: موافقته ومتابعة أنبيائه وأوليائه، ولا تحصل الموافقة إلا بترك مراد النفس، ولذلك قال: {يا قوم إنما هذه الحياة الدينا متاع}. قال محمد بن علي الترمذي: لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السابقة، عند العقلاء منهم، وطالبوها مهانين عند الحكماء الماضية، وما قام داع في أمة إلا حذَّر متابعةَ الدنيا وجمعها والحب لها، ألا ترى مؤمن آل فرعون كيف قال: {اتبعون أهدكم سبيلَ الرشاد}، كأنهم قالوا: وما سبيل الرشاد؟ قال: {إِنما هذه الحياة الدنيا متاع} أي: لن تصل إلى سبيل الرشاد وفي قلبك محبة الدنيا وطلب لها. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن المؤمن: {ويا قوم ما لي أدعوكم إِلى النجاةِ}؛ إلى السلامة من النار، {وتدعونني إِلى النار} بسلوك أسبابها. كرر نداءهم؛ إيقاظاً لهم عن سِنة الغفلة، واعتناءً بالمنادَى به، ومبالغة في توبيخهم، وفيه أنهم قومه، وأنه من آل فرعون، وجيء بالواو في النداء الثالث، دون الثاني؛ لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، بخلاف الثالث. ومدار التعجُّب الذي يلوح به الاستفهام هو دعوتهم إياه إلى النار، لا دعوته إياهم إلى النجاة، كأنه قيل: أخبروني كيف هذا الحال؛ أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر؟
{تدعونني لأكفرَ بالله} هو بدل من {تدعونني} الأول، وفيه تعليل، والدعاء يتعدّى باللام وبإلى، كالهداية، {وأُشركَ به}؛ وتدعونني لأُشرك به {ما ليسَ لي به عِلٍْمٌ} أي: بربوبيته، والمراد بنفي العلم: نفي المعلوم، كأنه قال: وأُشرك به شيئاً ليس بإله، وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلهاً؟ {وأنا أدعوكم إِلى العزيز الغفار} أي: إلى الله الجامع لصفات الألوهية، من كمال القدرة والغلبة، وما يتوقف عليه من العلم والإرادة؛ إذ بالقدرة يتمكن من المجازاة بالتعذيب، أو الإحسان بالغفران.
{لا جَرَمَ}؛ لا شك، أو: حقاً، وقال البصريون: {لا}: نفي رد لِما دعوه إليه، و {جرم}: فعل، بمعنى: حقّ، و {أن} مع {ما} في حيزه؛ فاعل، أي: حق ووجب {أنّما تدعونني إِليه ليس له دعوةٌ في الدنيا ولا في الآخرة} أي: وجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها، والظاهر: أن {جَرَمَ} من الجرم، وأراد به هنا الكذب، أي: لا كذب في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة... إلخ، فقد يضمن الفعل معنى المصدر، وتدخل {لا} النافية للجنس عليه، والمعنى: أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، ومن حق المعبود بالحق أن يدعوَ العباد إلى طاعته، وما تدعونني إليه لا يدعو هو إلى عبادته، ولا يدّعي الربوبية، أو: معناه: ليس له استجابة دعوة في الدنيا والآخرة، أو: دعوة مستجابة. جعلت الدعوة التي لا استجابة لها، ولا منفعة، كلا دعوة. {وأنَّ مردَّنا إِلى الله} أي: رجوعنا إليه بالموت، {وأنَّ المسرفين} في الضلال والطغيان، كالإشراك وسفك الدماء، {هم أصحابُ النار} أي: ملازموها.
{فستذكُرون ما أقولُ لكم} من النصائح عند نزول العذاب، {وأُفوِّضُ}؛ أُسلّم {أمري إِلى الله}، قال لَمّا توعّدوه. {إِنَّ الله بصير بالعبادِ} فيَحْرُسُ مَن يلوذ به من المكاره.
{فوقاه اللهُ سيئاتِ ما مكروا}؛ شدائد مكرهم، وما هَمُّوا به من إلحاق أنواع العذاب لِمَن خالفه، وقيل: إنه خرج من عندهم هارباً إلى جبل، فبعث قريباً من ألفٍ في طلبه، فمنهم مَن أكلته السباع، ومَنْ رجع منهم صَلَبه فرعونُ.
وقيل: لَمَّا وصلوا إليه ليأخذوه، وجدوه يُصلّي، والوحوش حوله، فرجعوا رُعباً، فقتلهم. وقال مقاتل: لمّا قال المؤمن هذه الكلمات، قصدوا قتله، فوقاه الله من مكرهم، أي: بعد تفويض أمره إلى الله، فقيل: إنه نجا مع موسى في البحر. اهـ. {وحاقَ}؛ نزل {بآلِ فرعونَ} أي: بفرعون وقومه. وعدم التصريح به، للاستغناء بذكرهم عن ذكره، ضرورة أنه أولى منهم بذلك، و{سوءُ العذاب}؛ الغرق والقتل والنار.
وقوله تعالى: {النارُ يُعرضون عليها غُدوّاً وعَشِيّاً}: جملة مستأنفة، مسوقة لبيان سوء العذاب، والنار: خبر عن محذوف، كأن قائلاً قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار، أو: بدل من {سوء}، و {النار}: مبتدأ، و {يُعرضون}: خبر، وعَرْضهم عليها: إحراقهم، يقال: عرض الإِمَام الأسارى على السيف: إذا قتلهم به. وذلك لأرواحهم، كما روى ابنُ مسعود: أن أرواحهم في أجواف طير سُود، تُعرض على النار أي: تحرق بها بكرة وعشياً، إلى يوم القيامة، وتخصيص الوقتين إما لأنهم يُعذّبون في غيرهما بجنسٍ آخر، أو: يخفف عنهم، أو: يكون غدوّاً وعشياً عبارة عن الدوام.
هذا في الدنيا في عالم البرزخ، {ويومَ تقومُ الساعةُ} يُقال للخزنة: {أَدْخِلوا آلَ فرعونَ}، من الإدخال الرباعي، ومَن قرأ: ادخُلوا، ثلاثيّاً، فعلى حذف النداء، أي: ادخلوا يا آل فرعون {أشدَّ العذابِ} أي: عذاب جهنم، فإنه أشدّ مما كانوا فيه. أو: أشد عذاب النار؛ فإنّ عذابها ألوان، بعضه أشد من بعض، وهذه الآية دليل على عذاب القبر في البرزخ، وهو ثابت في الأحاديث الصحاح.
الإشارة: النجاة التي دعاهم إليها: هي الزهد في الدنيا، وفي التمتُّع بها مع الاشتغال بالله، والنار التي دعوه إليها: هي الاشتغال بمتعة الدنيا مع الغفلة عن الله. لا جَرَمَ أنَّ ما دعوه إليه لا منفعة له في الدارين، بل ضرره أقرب من نفعه. وقوله تعالى: {وأنَّ مَردّنا إلى الله} قال الورتجبي: مرد المحبين إلى مشاهدته، ومرد العارفين إلى الوصلة، ومرد الكل إلى قضيات الأزلية.
قال حمدون القصّار: لا أعلم في القرآن أرجى من قوله: {وأنَّ مَردَّنا إِلى الله}، فقد حكي عن بعض السلف أنه قال: الكريمُ إذا قدر عفا، وإنما يكون مرد العبد إلى ربه إذا أتاه على أمد الإفلاس والفقر، لا أن يرى لنفسه مقاماً في إحدى الدارين، وهو أن يكون في الدنيا خاشعاً لمَن يذله، ولا يلتفت إليه، هارباً ممن يكرمه ويبره، ويكون في الآخرة طالباً لفضل الله، مشفقاً من حسناته أكثر من إشفاق الكفار من كفرهم. اهـ. قلت: هذا مقام العباد والزهّاد، وأما العارفون فلا يرون إلا الله، فيلقون الله بالله، غائبون عن إحسانهم وإساءتهم.
وقوله تعالى: {فستذكرون ما أقولُ لكم} هكذا يقول الواعظ إن لم ينفع وعظه، ويُفوض أمره وأمرهم إلى الله؛ فإنَّ الله بصيرٌ بهم. وقال بعضهم: وأُفوضُ أمري في الدنيا والآخرة إلى الله، فهو بصير بعجزي وضعفي عن رد القضاء والقدر، والتفويض: ألا يرى لنفسه، ولا للخلق جميعاً، قدرةً على النفع والضر، فيرى الله بإيجاد الموجود في جميع الأنفاس، بنعت المشاهدة والحال، لا بنعت العلم والعقل. وقال بعضهم: التفويض: قبل نزول القضاء، والتسليم: بعد نزول القضاء. وقال ذو النون حين سُئل عنه: متى يكون العبد مفوضاً؛ قال: إذا أيس من فعله ونفسه، والتجأ إلى الله في جميع أحواله، ولم تكن له علاقة سوى ربه. اهـ. أي: لم يكن له تعلُّق إلا بالله. فالمقامات ثلاث: التفويض قبل النزول، والرضا بعده بالمجاهدة، والتسليم بلا مجاهدة.
وقوله تعالى: {فوقاه الله سيئاتِ ما مكروا} هذه نتيجة التفويض، فكُلّ من فوّض أمره إلى الله فيما ينزل به، وقاه الله جميع المكاره، وكُلَّ ما يخشى؛ إن قطع عن قلبه التعلُّق بغير الله، كما هو حقيقة التفويض. قال القشيري: أشدُّ العذاب على الكفار: يأسُهم عن الخروج، وأما العصاة من المؤمنين فأشدُّ عذابهم: إذا علموا أن هذا يومُ لقاءِ المؤمنين. اهـ. أي: وهم قد حُرموا ذلك.


يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذ يتحاجُّونَ في النار} أي: واذكر لقومك وقت تخاصم الكفار في النار، {فيقول الضعفاءُ} منهم {للذين استكبروا} وهم رؤساؤهم: {إِنا كنا لكم تَبَعاً}، وهو جمع تابع، كخادم وخدَم، أو: ذوي تَبَع، على أنه مصدر، أو: وصف به للمبالغة، {فهل أنتم مُغنونَ عنا نصيباً من النار} أي: فهل أنتم دافعون، أو: حاملون عنا جزءاً من النار؟ {قال الذين استكبروا إِنَّا كلٌّ فيها}، التنوين عوض عن المضاف، أي: كلنا فيها، لا يُغني أحد عن أحد. وقرىء {كُلاًّ} بالنصب على التأكيد، وهو ضعيف لخلوه من الضمير. {إِنَّ الله قد حَكَمَ بين العباد}؛ قضى بينهم، بأن أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، لا مرد له، ولا مُعقب لحُكمه، فلا يُغني أحد عن أحد شيئاً.
قال ابن عرفة: في الآية لف ونشر، فقوله تعالى: {إِنَّ كلٌّ فيها} راجع لقوله: {إِنا كنا لكم تبعاً} أي: إنا قد حصلنا جميعاً في النار، فَجُوزي كلٌّ على قدر عمله، أنتم على ضلالكم، ونحن على إضلالنا إياكم. وقوله: {إِن الله قد حكم بين العباد} راجع لقوله: {فهل أنتم مُغنون عنا} وبهذا المعنى يتقرر الجواب. اهـ.
{وقال الذين في النار لخزنةِ جهنَّمَ}؛ للقُوّام بتعذيب أهلها، وإنما لم يقل: لخزنتها؛ لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً، ويحتمل أنّ جهنم هي أبعدُ النار قعراً، من قوله: بئر جَهنام، أي: بعيدة القعر، وفيها أعتى الكفرة وأطغاهم، أو: لكون الملائكة الموكّلين بعذاب أهلها أقدر على الشفاعة؛ لمزيد قربهم من الله، فلهذا تعمّدوهم بطلب الدعوة، فقالوا لهم: {ادعوا ربكم يُخفّفْ عنا يوماً} أي: مقدارَ يوم من الدنيا {من العذابِ}، واقتصارهم في الاستدعاء على ما ذكر في تخفيف قدر يسير من العذاب في مقدار قصير من الزمان، دون رفعه رأساً، أو: تخفيف منه في زمان مديد؛ لأن ذلك عندهم ليس في حيز الإمكان، أو لا يكاد يدخل تحت أمانيهم.
{قالوا} أي: الخزنة، توبيخاً لهم، بعد مدة طويلة: {أَوَلَمْ تَكُ} أي: القصة {تأتيكم رُسلُكم بالبينات}؛ بالمعجزات، يَتْلُون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ أرادوا بذلك إلزامهم الحجة، وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء، وتعطيل أسباب الإجابة، {قالوا} أي: الكفار: {بلى} أتونا بها، فكذبناهم وقلنا: ما نزَّل اللهُ من شيء. {قالوا} أي: الخزنة تهكُّماً بهم: {فادْعُوا} أي: إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم، فإنَّ الدعاء لمَن يفعل ذلك مما يستحيل صدوره. منا. زاد البيضاوي: إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم، وبحث معه أبو السعود بأنه يُوهم أن المانع هو عدم الإذن، وأنَّ الإذن في حيز الإمكان، ولا تجوز الشفاعة في كافر. انظره. قال تعالى: {وما دعاءُ الكافرين إِلا في ضلالٍ}؛ في ضياع وبطلان، لا يُجابون فيه؛ لأنهم دعوا في غير وقته، ويحتمل أن يكون من كلام الخزنة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الآية تجر ذيلها على كلّ مَن له جاه، فدعا إلى سوء، بمقاله أو حاله، فتبعه العامة على ذلك، فيتحاجُّون يوم القيامة فيقول المستضعفون: إنا كنا لكم تبعاً. فكل مَن أمر بسوء، وفُعِل، عُوقب الآمر والمأمور، وكل مَن فعل فعلاً خارجاً عن السُنَّة، كالرغبة في الدنيا، والتكاثر منها، فتبعه العامة على ذلك، عُوتب الجميع، وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8